بناء الدولة الإسلامية
يبدأ الرسول r في بناء الدولة، تلك التي لن تحكم المدينة فقط، بل ستكون مؤهَّلة لقيادة الأرض بكاملها، ومن شأنها أن تهزَّ عروشًا ضخمة وممالك عظمى، وما من شكٍّ في أنه مجهود هائل سيبذل، وما من شكٍّ أنَّ ذلك في ظنِّ كثير من النَّاس حلم بعيد المدى، بل مستحيل, لكنه تَحَقَّقَ وبخطواتٍ معروفةٍ وثابتة.
ولأن بناء الدولة الإسلاميَّة الأولى سيظلُّ درسًا تتعلَّم منه الأجيال، فقد شاءت إرادة الله U ألاَّ يكون مجتمع المدينة الذي يدخل إليه رسول الله r مجتمعًا بسيطًا يتكوَّن من الأنصار فقط، ولكنه اشتمل على عناصر عديدة، وبدأ رسول الله r في التعامل معهم كلٍّ حسبما تقتضي ظروف المرحلة والدعوة.
فالمسلمون: يتألَّفون من مهاجرين لا مال لهم ولا زاد، وأنصار هم أهل البلد الأصليون، وهم بِدَوْرِهم ينقسمون إلى قبيلتين هما: الأوس والخزرج، وكان هناك أيضًا المسلمون في الحبشة، والمسلمون المستضعفون في مكة الذين لم يستطيعوا الخروج؛ فكان على رسول الله r أن يتعامل مع هذه الطوائف جميعًا بحكمة ورويَّة، ويضع لكل منها ما يناسبها؛ حتى يقيم دولة متجانسة متآلفة فيما بينها.
والمشركون: طائفة فُرض على رسول الله أن يتعامل معها، وهم مشركو المدينة من قبائل الأوس والخزرج الذين لم يؤمنوا برسول الله r، ومشركو الأعراب من القبائل المحيطة بالمدينة والذين يعيشون على السلب والنهب، ومشركو قريش الذين لم ينسَوْا حرب رسول الله؛ فكان على رسول الله r أيضًا أن يتعامل مع كل طائفة منهم بما يناسبها.
واليهود: أخطر الطوائف التي حرص رسول الله على أن يتعامل معهم بكل حذر؛ إذ هم أهل كتاب ويملكون نفوذًا كبيرًا في المدينة، وكانوا ثلاث قبائل قويَّة: بنو قينقاع، وبنو قريظة، وبنو النضير، وبعد أقلِّ من سنتين ستظهر فئة رابعة، أشدُّ خطرًا من المشركين واليهود ألا وهُمُ المنافقون، فكيف سيتعامل رسول الله r مع هذه الفئات جميعها؟
فأمَّا الأنصار؛ فقد حرص الرسول r على أن يوحِّد بين القبيلتين المتناحرتين، الأوس والخزرج، وكانت قد دارت بينهما حروب عديدة آخرها حرب بُعاث، وكانت قبل الهجرة بعامين فقط، واستطاع r أن يجمعهما على رابطة العقيدة والأخوَّة في الله، معتمدًا في ذلك على صدق إيمانهم، حتى نَسِيَ الأوس والخزرج كلَّ ما كان بينهما من عداوات وحروب، وتوحَّدوا مع رسول الله r لنصرة دين الله، وأصبحوا على قلب رجل واحد، وكانت هذه الخطوة قبل أن يؤاخي رسول الله r بين المهاجرين والأنصار.
وأمَّا المهاجرون، وهم الذين نَجَوْا بأنفسهم إلى المدينة، وتركوا أموالهم ومتاعهم في مكة، وانتقلوا إلى أرض لم يألفوها، وقومٍ لم يعرفوهم، فقد حرص رسول الله r منذ اللحظة الأولى على اتخاذ بعض الإجراءات التي تُقَرِّب بينهم وبين الأنصار وتجمعهم في بوتقة واحدة، كان من أهمها المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وهي عمل من أروع ما يأثره التاريخ، حيث آخى r بينهم على الاقتسام في كل شيء، في المال والزاد وحتى في الميراث، وقد سجَّل التاريخ قِصَصًا خالدة من قصص هذه المؤاخاة، منها ما ورد أن سعد بن الربيع الأنصاري عرض على أخيه المهاجري عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما أن يقتسم معه أملاكه وأمواله، بل وأن يُطَلِّقَ له إحدى زوجتيه حتى يتزوَّجها، غير أن عبد الرحمن t لم يرضَ بذلك، وطلب منه أن يدلَّه على السوق حتى يتاجر [64]!
وهذا المثال يُوَضِّح درجة التضحية والإيثار التي بلغها الأنصار، وحالة الأخوَّة الحقيقيَّة، تلك التي بُنِيَتْ عليها الأمة الإسلاميَّة فقادت العالم كله، كما يبيِّن أن المهاجرين لم يركنوا إلى المؤاخاة وترك العمل، بل أخذوا مواقعهم بسرعة في العمل والتجارة، وبذلك تمَّ تفعيل دورهم في المجتمع ولم يبقوا مجرَّد لاجئِينَ وإنما عناصر فعالة.
وفضلاً عن المؤاخاة، فما أن استقرَّ رسول الله r في المدينة حتى وضع الدستور الإسلامي الذي ينظِّم العَلاقات بين المهاجرين والأنصار، ويوضِّح عَلاقات المسلمين بغيرهم، والتي جعلت المهاجرين يذوبون تمامًا في المجتمع المدني، والتحموا بالأنصار في غضون شهور قليلة، وأصبحوا عنصرًا رئيسًا من البلد، وغَدَوْا يدافعون عن المدينة المنوَّرة وكأنها موطنهم الأصلي، وبهذا استطاع r أن يبني في المدينة مجتمعًا جديدًا، يُعَدُّ أروع وأشرف مجتمع عرفه التاريخ.
وبالنسبة للمشركين فكانوا صنفَيْنِ: مشركو المدينة (مشركو الداخل)، ومشركو قريش (مشركو الخارج). فأما مشركو المدينة فكان أغلبهم على الحياد، ولم تمضِ عليهم مدَّة طويلة حتى أسلموا وحَسُن إسلامهم، وكان فيهم مَن يُبطن العداوة ضدَّ رسول اللَّه r والمسلمين، وكان مضطرًا إلى إظهار الودِّ والصفاء، وعلى رأس هؤلاء عبدُ اللَّه بنُ أُبيِّ بنُ سلولَ، فقد كانت الأوس والخزرج اجتمعوا على سيادته وتتويجه الملك عليهم بعد حرب بُعاث، ولم يكونوا اجتمعوا على سيادة أحد قبله، وقد صادف ذلك مجيء رسول اللَّه r، فانصرف قومُه عنه إلى رسول الله r، فرأى أنه استلبه مُلكه، ومن ثم كان يُبطن شديد العداوة ضدَّه r، ولما رأى الظروف لا تساعده على شركه أظهر الإسلام بعد بدر، ولكن بقي مستبطنًا الكفر، وكان لا يجد مجالاً للمكيدة برسول اللَّه r وبالمسلمين إلا ويأتي بها، وكان أصحابه من الرؤساء الذين حُرِمُوا المناصب المرجوَّة في مُلكه يساهمونه ويدعمونه في تنفيذ خططه، وربما كانوا يتَّخذون بعض الأحداث وضعاف العقول من المسلمين عملاء لهم، لتنفيذ خططهم.
[64] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب إخاء النبي r بين المهاجرين والأنصار (3569)، عن عبد الرحمن بن عوف